المنفى يُولد الآن
وأنْتِ في أنْفاسي
أشعرُ أنني
تمثالُ ثَلْجٍ
على مدخل دمشق،
عيناه مُطْبقتان
أنفه يتنفّس الغضب
أذناه متآلفتان مع ضجيج الموت
فمه عاجزٌ عن النّطق
يحاول أن يقول:
أيتها الثلوج
الدم منفيٌّ
لا شيء يجمعه بالسلالة.
وأنْتِ في أنفاسي
العبث يَشْحن لحظاتي
واللاجدوى صورٌ تتكرّر في ذهني.
على الشاشات أرى ثلجاً فولاذيّاً
والأحبار َضوءاً ينحسر،
ألمح أعيناً لا ترى
تُشْحَن بالمناظر
تحتلّها الصور.
أيّتها الأعين
يَغْمركِ الثلج أيضاً
ثلجُ هذه الأزمنة
هذه الدروب!
الباب الذي نقرعه يظلُّ مغلقاً
وحين يُفْتحُ
يلوح بابٌ آخر مغلق أيضاً،
ندخلُ قفص الآمال الخائبة
في ظلمةٍ يحقنها
أفيون ما في الداخل.
يرمي ساعي البريد حزمَ الجرائد أمام الأبواب،
عربةٌ على الرصيف، تتكئ على قائمتين معدنيتين،
يتفتّت الثلجُ تحت الأقدام.
سِلْطةُ بياضٍ تفرضُ الضرائب على المدينة،
كلماتٌ لا تفتح الأبواب أو النوافذ
تُحْدثُ ثقوباً بمسدسات غير مرئية
وتملأ علب الحليب.
يَرْضعُ الأطفالُ غير آبهين
حليبَ الثلوج.
يتقوّسُ كتفا ساعي البريد
في وجهه رسائل ليست لأحد
رسائلُ غضبٍ أو ربما قبول
لأثْقال الكتفين،
يعرفُ أنه سيتلاشى
كندفة ثلجٍ في هذه المدينة.
يمرّ رجلٌ يمارس الجري
قدماهُ تطبعان علاماتٍ على الأرصفة.
رأسه في هذه اللحظة
يغادر الكتفين نحو بلاد أخرى.
أيتها البلاد الأخرى
أنت كومةٌ من الثلج،
بَرْدٌ في عظامي،
ضوءٌ ينتظر دوره على أبواب الظلمات،
نَصْلُ سكّينٍ يلمع في لحظة الذهول.
هنا،
أفكّر بقلبي وما يحبّه،
بالدم يجري في عروقي ويفكّر،
بحياتي مدفونةً تحت ثلج الغياب،
بين جناحين هائمين في ضياع له نكهة المدينة
في امتداد للخريطة يحرق نفسه،
خريطة الطفولة التي ترسم أشكالي
على ورق ممزّق
على جدران مهدّمة وأثاثٍ محترق.
أيتها الطفولة
يا ندفةَ النسيان.
إنها الثلوج،
لا أنسى أيَّ شيء أيُّها البياض
أيها التجانس في الأشياء
أنتظر الذوبان في أعماقي
كي يظلّ الفراغ مؤكداً
والهوّة شاسعة.
بياضٌ يُثْقل الأغصان.
عريٌ يتجنّب العناق.
على مدى الحدائق
وجوهٌ تزحف بيضاء
حالمةً بيرقة ضوئية
أو عرق دفءٍ في صحراء الثلج.
إنها الثلوج،
في روحي المُتَوارَثة،
في كلمات رضعْتُها،
فيكَ يا دفء الطفولة
تحت أشجار الألفة.
إنها الثلوج،
ثلوجُ الصداقة والحب،
ثلوجُ العناق في المنازل المُسْتأجرة،
في حارات مغلقةٍ على نفسها،
في الحياة مصلوبةً على نَصْب من الكلمات.
إنها الثلوج تجمّدني
أنا المُثْقل بحنين لا يذوب
يتكثّف ويتراصُّ.
ثلوجٌ تقرع النوافذ والأبواب في الحلم
تتجمّع أمام البيوت
تصير أفخاخاً للعجائز
تُذكِّر العابر بأعماقه:
أهكذا هو داخلي،
سَهْبٌ من الثلج
حيث الصمت
هو الطائر الوحيد
يرفرف بجناحين
جليديّين؟
فيك أيها النهر الذي يشقُّ المدينة نصفين
لا يعبر أيّ شيء إلا ذكريات صيفٍ
أوْقَد نيرانَهُ على ضفافك
تسلّقتْ ضحكاتُه سلالم العبّارات
فيما النسوة تنافسْن على احتلال أمكنة لوجوههنَّ
في فراغ اللامبالاة
والرجال تحدّثوا عن أعمالهم
مُسْلمينَ أعينهم لنفسها.
إنها الثلوج
في قلْبك أيها الغريب
وأنت تنزلُ الأدراج نحو فكرةٍ في أعماقك
مشعلاً مواقد الحنين في ذاكرتك
فلا ترى إلا أراجيح تعلو وتنخفض
في الأفق المغلق
على شاطئ المتوسّط
بحر الماضي وقناديل الأحلام السوداء.
وحين تظلُّ تنزلُ الأدراج
دون أن تصل
تيقن أن حياتك نزول وصعود
حيث تتراكم الثلوج
وتذوب الأحلام.
المنفى، وليدُ هذه اللحظة،
يتدفّق من مسامّ الغريب،
وهو يسير دون أن يمكّن الصور
من الاستحواذ على رأسه.
يريد أيضاً أن يحفر طريقاً في ثلوج النسيان
أن يتأكد أن نبضه ليس ندفة ثلجٍ
أن أحزانه تذوب حين يتعرّى الأفق من بياضه
ويرتدي الضوء،
حين ينبجس الربيع
صاعداً بخضرته المجنونة
كصرخةٍ من حنجرة الأرض
كموسيقا يعزفها التراب
في مدينة لا تسمعُ
مدينة تتحدّث
مدينة تتدفّق
تبني جبلاً لثلوج النسيان.
ألمح البياض،
غبار البياض،
العيون تترنّح في الضوء،
العيون لا ترى الضوء.
إنها ثلوج آذار
أكثر تنبؤاً بخطواتك أيها الغريب،
الذي يحمل صرة أحزانه
من محطة قطار إلى أخرى،
واقفاً، بعينين منكسرتين
على طرق الفجر،
حائراً في الاندفاعات المتأججة لأحلامه
أي طريق يسلك،
شاعراً باهتزازات شموس
تتوحّم في أعماقه،
مُرْهفاً سمْعهُ للنّسغ
يهدر في عروق الشجر،
لموسيقا العروق
على شواطئ المتوسط
على شواطئ يأسه
حيث تتساقط ثلوج العنف
والبياض ملوّث بالدم
حيث تتراكم ثلوج النّدْب
في فجر بلا توقعات
وتطوي بلاد الدم كتاب المستقبل
وتفتح كتباً أخرى مليئة بالصلوات
من أجل أجساد
تغذي مقابر الفردوس.
أيها الثلج
أيها البياض
يا بياضَ ملاءاتٍ فوق الموتى
يا بياضَ صلواتٍ خمس
المتوسّط هامدٌ في زرقته
وخطّ الأفق جرحٌ يفصلنا عن العالم.
نُتْرَكُ لصراخنا
لبياض الأغطية فوق الجثث
لكلماتِ الصلوات
تفتح دروباً نحو مقابر أخرى
حيث هدير الحناجر
في المدن والأرياف
يعلّق شمسه بيدين نازفتين
في الأفق.
لن أقول للضوء أن يقودني
لن أفتح أبواباً في الاحتمالات
لن أهلّل لشمس الكلمات
أواجه وجهي في مرآته المعلقة في فراغي
حيث تهبّ الرياح
في الجهات كلّها
مسكونةً بأصوات المنفيين
الرياح التي
تمنح للنسيان اسماً أكثر جمالاً.
حياتي تقرع أبواب مكان جديد
حافيةً تتسلق جدرانه
وتبحث عن شموسه.
أيها الربّان الحائر،
يا حلمي
أيها المهاجر الأبديّ،
يا خياليَ،
من منكما سيهديني بلسماً ليأسي؟
[شيكاغو، أيلول، ٢٠١٤]